الجمعة، 13 أغسطس 2010

بقايا الفرقة الناجية من محرقة المسلسلات

حل علينا شهر رمضان المعظم (أعاده الله علينا وعليكم بالرحمة والخلاص) غير أن هذه المناسبة العطرة تحولت إلي سبب وذريعة لارتكاب جريمة هائلة ظلت تستفحل وتتفاقم عاماً بعد عام حتي وصلت لمستوي صهيوني ونازي علي الأقل، فالساكن معنا في هذا البلد (وسيئ الحظ الذي قد يمر عليه خلال هذا الشهر الفضيل) سوف يتعرض لمحنة، بل محرقة حقيقية تُضاف إلي محارق وجرائم البؤس والجوع والتخلف وقلة القيمة المستمرة طوال شهور السنة، فأما المحرقة الرمضانية فيكفي للدلالة علي درجة بشاعتها وحجمها المهول أن تعرف وتستمتع بالمعلومات والأرقام التالية:


أولاً: هناك عدد 51 مسلسلا تليفزيونياً (من الإنتاج المحلي فقط) يبلغ مجموع ساعات عرضها خلال أيام الشهر الكريم الحالي ما يزيد علي يومين وثلاث ساعات يوميا (!!) وتبدد في إنتاجها والصرف علي جيوش العاملين فيها والذين استرزقوا من سبوبتها مبلغ تراوحت تقديراته ما بين 750 و1000مليون جنيه، أما رأس المال الذي دار في سوق بيعها وشراء حق عرضها فقد تجاوز رقم 3.5 مليار جنيه (!!)
ملحوظة : الأرقام السابقة كلها تُمثل الحدود الدنيا المتُفق عليها، بينما هناك أرقام أخري تقفز بحجم القوات المسلسلاتية والـ«سيت كومساتية» التي حشدت لتنفيذ عملية الغزو الرمضاني هذا العام إلي أكثر من 130 مسلسلاً و«سيت كوما»!!


ثانياً: تم حشد عدد لا أول له ولا آخر (فشلت في إحصائه) من البرامج التي جري تصميمها وتكديسها علي موجات الأثير لإشاعة الجهل وتعميقه ورفع وتيرة عمليات الإبادة العقلية الشاملة وإحداث أكبر قدر من الإيذاء البدني والتشوه الروحي والخلقي وسحق ما تبقي من منابت الإبداع والفن والذوق والجمال.. هذه البرامج التي قد يتجاوز عدد ساعات بثها كل يوم عدد ساعات أسبوع كامل، موزعة علي صنفين اثنين، أولهما صنف التفاهة والهيافة وقلة الأدب، والثاني برامج العبث واللعب في الدين بواسطة فرقة تجار وسماسرة معدومة العلم والحس والضمير لدرجة تجعلني أرجح أن أغلب أعضائها سيُحرمون من رحمة ربنا، لن تنجو هذه الفرقة بالذات من عذاب جهنم وبئس المصير جزاء ما فعلت في عقول وأرواح عباد الله.


ثالثاً: تنتظرك الآن كتيبة قوية وكاملة العدد قوامها مذيعون ومذيعات أشداء وقساة القلب ومسلحون حتي الأسنان بترسانة ضخمة من أسلحة الفتك والدمار لا تبدأ بالجهل والأمية ولا تنتهي بقبح الخلقة وثقل الطلعة وسوء السمعة، فضلاً عن مهارات وفنون الاشتباك والقتل بالسم التي تلقي أغلبهم تدريباً راقياً عليها تحت الكباري وفي أقبية مباحث التموين.


عزيزي القارئ الكريم.. إذا كنت تقرأ هذه السطور وقد أفاض عليك المولي تعالي من واسع رحمته وموفور كرمه وفضله وجعلك تتمتع بنعمة الغياب عن الوطن في هذه الأيام المباركة، فربما تأخذك الأوهام بعيداً فتظن أن ثمة إمكانية للإفلات والهرب من هذه المحرقة بأي وسيلة، لكن يؤسفني جداً إبلاغ حضرتك أن فرصة نجاة السكان البؤساء المسجونين داخل حدود القطر تكاد تكون مستحيلة ومعدومة بالمرة..

يعني مثلاً لو هجر الناس بيوتهم وجحورهم وهاموا علي وجوههم في الشوارع والطرقات المسدودة بجبال الزبالة الشماء، هل تظنهم سيفلتون بجلودهم من التعرض لمنتجات وملوثات المحرقة الإجرامية التليفزيونية الرمضانية المتأججة الآن؟ أبداً خالص البتة.. فلقد أحصي العبد لله في الأيام القلية الماضية نحو مائة لافتة و«أفيش» إعلاني ضخم تحاصر وتصفع عيون المارة في شوارع وكباري عدد محدود من أحياء العاصمة وبعض مداخلها ومخارجها (لا أستطيع مسح كل الأحياء) وكانت النتيجة أنني وجدت أن نسبة تلوث هذه اللافتات بالمواد التليفزيونية الرمضانية المشعة (مسلسلات وخلق مذيعين ومذيعات..إلخ) تبلغ 63 في المائة، أي ضعفي ونصف تقريباً نسبة الملوثات الإعلانية الشوارعية التي تروج للقصور والفيللات والمنتجعات الفخمة المبنية علي أراضي الدولة المسروقة (24 في المائة)!!
لست شريراً ويحزنني أن تتسبب معلومات وأرقام أخري مقارنة ستقرأها حالاً في إفساد صيام بعض الصائمين، لكني أري ـ أخي القارئ ـ أنك صرت كبيراً بما يكفي لتعلم حقيقة وضعك الصحي.. فالحال أنك تكابد في أزهي عصور الملوخية الحالي، منتجات وإفرازات متفاوتة في درجة الأذي والسمية تبثها (حسب تقرير أخير لمركز معلومات مجلس الوزراء) 54 قناة تليفزيونية محلية منها 23 مملوكة للحكومة و31 قناة قطاع خاص (أغلبيتها الساحقة تعمل وتُبث علي مدار الساعة يومياً) هذا بالإضافة إلي حوالي 500 محطة أخري (غير مصرية) يحملها القمر الصناعي «نايل سات» المتاح التقاط أقنيته ـ حسب التقرير نفسه ـ لنحو 70 في المائة من المصريين.


ومقابل هذه الأرقام التي لا يعرف سكان الكوكب مثيلاً لها، هناك في هذه الدنيا بلدان مثل ألمانيا حيث يشاهد أغلب السكان شبكتين تلفزيونيتين عموميتين فقط «ARD» و«ZDF» تملكهما الدولة وينتهي بثهما عند منتصف الليل ويُلزمهما القانون صراحة بالتقيد بحد أدني مرتفع من الجودة وتقديم خدمة معلوماتية وتثقيفية وإبداعية ذات قيمة للمشاهدين، كما لا يسمح لهما ببث إعلانات إلا لمدة 3 ساعات فقط يومياً عدا يوم العطلة الأسبوعي (الأحد)،

ففي هذا اليوم غير مسموح بإزعاج المشاهدين بأي إعلانات.. طبعاً متاح للمواطن الألماني مشاهدة عشرات القنوات التليفزيونية الفضائية الأخري لكن الشبكتين الحكوميتين تستحوذان علي النسبة الأكبر من سوق المشاهدة في البلاد.
الوضع نفسه (تقريباً) ومع اختلافات وتباينات طفيفة في بعض التفاصيل، موجود في بريطانيا وفرنسا واليابان وحتي كوريا وإندونيسيا وبلاد أخري تركب «التوك توك» مثلنا الآن لكنها تتمتع بنظم حكم لم تأت بها الشياطين ومن ثم تقود مجتمعاتها نحو التقدم والتمدين والازدهار وليس الإبادة والانتحار والاندثار.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

جمال فهمى فى الدستور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق