الثلاثاء، 2 يونيو 2009

زيارة القيصر الجديد

بقلم : عبدالله السناوى / العربى / 1/ 6 / 2009
للصور والرموز سطوتها، قد تتراجع إلى خلفية المشهد السياسى المفعم بالتحديات المستجدة، ولكنها تدخل فى حساباته المعقدة.
.. وعندما يدخل القيصر الأمريكى الجديد «باراك أوباما» إلى قاعة الاحتفالات الكبرى بـ «جامعة القاهرة» لتوجيه رسالة أخرى إلى العالم الإسلامى، فليس بوسع أحد أن يغض الطرف عن أن هذه القاعة تحمل اسم «جمال عبدالناصر»، وأن توقيت خطابه ـ الخميس (4) يونيه ـ يتزامن مع ذكرى نكسة عام (1967).
الرموز ـ فى القاعة واسمها والتوقيت ومغزاه ـ قد لا تكون مقصودة بذاتها، ولكنها حاضرة فى المشهد المثير وداخله فى تفاعلاته.. فهناك جدل صاخب فى مصر ومحيطها عن تراجع دورها الإقليمى، الذى شهد ذروته فى عقدى الخمسينيات والستينيات، غير أن أطرافاً فى نظام الحكم تعتقد أن أدوارها «كاسحة»، وأن زيارة «أوباما» دليل قاطع على محورية الدور المصرى ـ على ما يقول وزير الخارجية «أحمد أبو الغيط»!.. وهذا خلط أوراق بين «مصر التاريخية» و«مصر الرسمية»، وباليقين فإن «أوباما» اختار الأولى للتحدث من فوق منصتها إلى العالم الإسلامى، دون أن يخطر بباله ان الثانية سوف تحاول دبلوماسيتها وإعلامها تسويق الزيارة باعتبارها فتحاً لا مثيل له فى التاريخ المصرى يؤكد شرعية النظام وسلامة اختياراته الداخلية، رغم أن هذه الاختيارات ـ بالذات ـ كانت محلاً لانتقادات حادة فى الصحف الأمريكية، التى خشيت من أن تضفى الزيارة دعماً سياسياً لما وصفته بـ «الديكتاتورية» والعصف بالحريات العامة، وهو أمر حاولت الإدارة الأمريكية ـ قبل زيارة «أوباما» التخفيف من وطأته باستقبال نشطاء سياسيين مصريين فى الولايات المتحدة من معارضى نظام «مبارك» فى مكتب وزيرة الخارجية «هيلارى كلينتون».. وهذا إجراء غير مسبوق فى تاريخ العلاقات المصرية ـ الأمريكية، ولا يمكن وصفه بأية حال بأنه تعبير عن ثقة إدارة «أوباما» فى الأحوال الداخلية المصرية، بل إن الإدارة لديها مخاوفها على مستقبل نظام الحكم «الحليف» فى مصر، وتخشى من سيناريوهات ما بعد مبارك وتأثيراتها على المصالح الأمريكية فى المنطقة.
الهوس الدبلوماسى والإعلامى ـ بحد ذاته ـ دليل على قلة ثقة فى النفس، وعلى عمق الأزمة الداخلية، فليست هناك دولة تحترم نفسها تعتبر زيارة رئيس دولة أخرى مما يضفى شرعية على نظام الحكم فيها، أو يؤكد أدوارها فى محيطها، فالشرعية مصدرها القبول العام، والأدوار تصنعها السياسات لا الإدعاءات التى لا يصدقها أحد.
وفى التوقيت يبدو الرمز حاضرا، ففى يونيه (1967) تعرضت مصر لأخطر وأكبر ضربة تلقتها فى تاريخها الحديث، ورغم انها رفضت الهزيمة وقاتلت من جديد لست سنوات كاملة حتى انتصرت فى ميادين القتال عام (1973)، إلا أنه أريد ـ وبصورة مضطردة وممنهجة ـ تكريس الهزيمة فى الوجدان العام، وأن إسرائيل قوة لا تقهر، وان مصلحة مصر فى أن تنكفئ على نفسها، وألا شأن لها بالقضايا العربية ، فـ «أكتوبر آخر الحروب، و(99%) من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة» ـ على ما قال الرئيس الراحل «أنور السادات»!
..وعندما يدخل «أوباما» جامعة القاهرة، فهو يدرك قيمة البلد الذى يتحدث من على منصة جامعته الأولى، ولكنه يدرك ـ أيضا ـ أن هذه الجامعة لم تعد مصنفة دوليا من ضمن الـ (500) أفضل جامعة فى العالم، وأن التراجع العلمى يرافقه تراجعات أفدح استراتيجيا واجتماعيا، لا يخفف من مشاهدها حملات النظافة المكثفة فى محيط الجامعة!
للرموز والصور سطوتها، ولكن للوقائع المستجدة كلمتها فى تقرير أجندة الزيارة والهدف منها.. وقد أُريد أن تمثل بداية جديدة للتعاطى الأمريكى مع ملفات المنطقة، أو إشارة إلى نظرة مختلفة للعلاقات الأمريكية مع العالمين العربى والإسلامى، مترافقة مع سياسات تحاول أن تفتح بحذر النوافذ المغلقة مع إيران وسوريا، وأن تضمن المصالح الأمريكية بطرق مختلفة أكثر أمنا وأقل كلفة تنهى المأزق العراقى، وتضع نهاية للصراع الفلسطينى ـ الإسرائيلى وفق حل الدولتين.
وقد استبقت التكهنات والتسريبات زيارة «أوباما».. فى البداية بدا أن هناك «طبخة سياسية» جديدة، توشك أن تعلن عن نفسها، يجرى بمقتضاها تسوية نهائية للصراع الفلسطينى ـ الإسرائيلى.. لكن بمواصفات واشتراطات جديدة من بينها شطب قضية اللاجئين بصورة نهائية.. وضم الجانب الأكبر من المستوطنات الاسرائيلية فى الضفة الغربية إلى الدولة العبرية مع تبادل للأراضى يجرى التفاوض عليه، مع تطبيع عربى واسلامى شامل وعاجل مع إسرائيل.
كان التوجه العام داخل «ادارة أوباما» يميل إلى عقد صفقة شاملة، تجرى على مرحلة واحدة.. وينتهى الأمر، وأن ذلك سوف يساعدها على إنهاء أزماتها فى المنطقة، ويصون المصالح الأمريكية فى المنطقة بوسائل جديدة، ويحسن ـ فى ذات الوقت ـ صورة الولايات المتحدة فيها، التى حُطمت على عهد الرئيس السابق «چورچ بوش»، كما لم يحدث من قبل.. غير أن الاعتبارات الأمريكية تعارضت مع اعتبارات اسرائيلية تبنتها حكومة «بنيامين نتنياهو»، فمن وجهة نظر الأخير أن المستوطنات «خط أحمر»، وأن ما يدعو إليه «أوباما» من إيقاف التوسع فيها لحين التفاوض على مستقبلها لا يمكن القبول به، فضلا عن ان هذه الحكومة ترفض «حل الدولتين» من حيث المبدأ، وترفض معه «خطة خريطة الطريق»، أو أية اتفاقات وعهود سابقة قطعتها حكومات إسرائيلية أخرى.
عند هذه الدرجة من التباين فى الاعتبارات الأمريكية والإسرائيلية.. بدا ان إدارة أوباما مستعدة للتراجع أكثر من خطوة للخلف، وان تستبعد إلى حين إشعار آخر فكرة الصفقة الشاملة، رغم انها كارثية على المصير الفلسطينى، عارضة صفقة أخرى أقل يجرى بمقتضاها إيقاف التوسع فى المستوطنات مقابل تطبيع عربى شامل مع إسرائيل.. الا أن حكومة «نتنياهو» اعترضت على الشق الأول من الصفقة وتحمست ـ فى ذات الوقت ـ لحصد الشق الثانى مجاناً، بل بدأت فى اسباغ أوضاع قانونية على طبيعة الدولة العبرية يؤكد يهوديتها ويهمش العرب فيها إلى حدود ممارسة أبشع أنواع العنصرية، تنفى أية حقوق فى التعبير عن هويتهم القومية أو الكلام عن أنهم قد تعرضوا لنكبة فى عام (1948).
.. و عندما يصل «أوباما» إلى القاهرة، فهو يدرك أنه ليست لديها أجندة مختلفة أو أوراق تضغط بها، وأنها تعتبر زيارته نهاية المنى، ولم يجد غضاضة ـ والحقائق أمامه ـ أن يحدد من طرف و احد موعد الزيارة، وجدول أعمالها، والوقت الذى سوف يقضيه فى العاصمة المصرية، والمنصة التى سوف يتحدث من فوقها، دون أن يكون للطرف المصرى المضيف رأى أو مشورة.!
.. وعندما يصل «أوباما»، ويلتقى المسئولين المصريين، فهو يدرك أن إسرائيل استخدمت الاعتراضات المصرية على الدور الإيرانى، والمبالغة فيه على نحو خطير، للكلام عن أن هناك فرصة أمامها لبناء تحالف استراتيچى جديد فى المنطقة يجمعها مع الدول العربية الموصوفة بـ «الاعتدال»، وفى مقدمتها مصر، ضد «الخطر الإيراني»، وأن مثل هذا التحالف يحقق المصالح الأمريكية دون حاجة لتنازلات فى الملف الفلسطينى لا ضرورة لها، ولا صاحب يضغط من أجلها، فالفلسطينيون منقسمون بصورة فادحة، وخلافات حركتى «فتح» و«حماس» تستعصى ـ حتى الآن ـ على التجاوز، بل إن الخلافات وصلت إلى داخل «فتح» ذاتها، والانقسام العربى لا يقل فداحة، والدولة العربية الأكبر والأهم مشغولة بمستقبل نظام الحكم فيها، و«أوباما» يدرك أكثر من غيره ـ والتقارير أمامه والمعلومات متوافرة ـ أن قضية مستقبل الحكم والتوريث فيه لها أولوية تسبق أية قضية أخرى، أو استحقاق آخر، وأنها باب التنازلات المفتوح على آخره. وأن لا أحد ـ هنا فى القاهرة ـ مستعد للرهان على أية أوراق لديه للضغط على إسرائيل، التى تبدو ـ الآن ـ أمام احتمالات صدام محتمل مع الإدارة الأمريكية، فالرؤى متباينة فى إدارة ملفات المنطقة الملتهبة، بل إن بعض الدول العربية، وفى مقدمتها الدولة المضيفة مصر، غير مؤهلة وغير مستعدة لممارسة أى ضغط، وهو ما قد يساعد على لملمة سريعة للتناقضات الأمريكية الإسرائيلية على حساب المصالح العربية، وبمساعدة أطراف عربية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق