الثلاثاء، 21 يوليو 2009

الشوارعيزم‏..‏ وثقافة الحاشية‏!‏




ضايقتني الظاهرة التي سأكتب عنها اليوم‏,‏ ولكنها ـ بيقين ـ لم تحيرني‏.‏

إذ إنها استكمال لمشهد تعددت تفاصيله‏,‏ وتنوعت عناصره‏,‏ وصبت ـ أجمعين ـ لصالح توكيد فكر الاستقواء وتعزيزه‏,‏ وهو ـ كما تعلمون ـ العمود الفقري للشوارعيزم ومثلثها الشهير الذي يضم نفرا من رجال الحكومة المتنفذين‏,‏ وبعض رجال الأعمال المتمولين‏,‏ وزرافة من إرهابيي الصوت والقلم الإعلاميين والصحفيين المأجورين‏.‏

الاستقواء يعني ـ في أبسط تعريفاته ـ إطاحة القانون‏,‏ والأعراف‏,‏ والأخلاق‏,‏ والمعايير‏,‏ وحدود الالتزام المهني والوطني وتصنيع دنيا بديلة لا مكان فيها للبسطاء‏,‏ وقد بات عليهم أن يرحلوا في طوابير حزينة‏,‏ وطويلة الي خارج المشهد العام كله‏.‏


رهط من الحراس والسائقين‏,‏ والسكرتارية‏,‏ والموظفين والصحفيين يهرول حول الوزير وخلفه متكفئا أفراده‏,‏ محيطين اللقطة بصراخ لإفساح الطريق‏,‏ أو شخط ونطر من أحد صغار كبار الموظفين أو كبار صغار الموظفين‏,‏ عن أحد صغار صغار الموظفين‏,‏ للمزايدة علي إظهار الحرص والنمكية والولاء‏,‏ عبر رزع الأبواب‏,‏ وتقديم ورق لا معني له للمسئول كيما يتظاهر بالنظر فيه‏,‏ والتدافع بالمناكب لفتح السيارة‏,‏ وفلاشات كاميرات تلتمع علي وجه الرجل‏,‏ فيما مذيعة تمد يدها بلاقط الصوت ناحيته ليتحدث ما حلا له من دون توجيه سؤال‏.‏


ثم ترويع للمارة والسيارة في الشارع‏,‏ للتذكير المتواصل بأن المواطنين ينبغي أن يفسحوا الطريق للوزير‏.‏

وحتي اللحظة لم يتبادر إلي ذهني سبب أو ذريعة‏,‏ أو مبرر‏,‏ أو حيثية‏,‏ تقول بأن المواطنين ينبغي أن يفسحوا الطريق للوزير‏.‏

ثم أن الوزير اذا شد الرحال مسافرا ـ فيما يعمد الي تصويره علي أنه مهمة عمل ـ تعود اصطحاب مجموعة من الصحفيين والإعلاميين في تشكيلات أخذت في الاتساع ـ باطراد ـ حتي بلغت في حالة أحد الوزراء ما يزيد علي عشرين صحفيا وإعلاميا‏,‏ ويكون خرج تلك الحاشية ونتاجها أخبارا وصورا وأحاديث مع الوزير بمناسبة‏,‏ ومن دون مناسبات‏,‏ وكلها تنقل وجهة نظر الرجل الذي صارت تلك الحاشية تعمل عنده ولا تعمل عند قراء الصحيفة الذين يدفعون قروشهم كل يوم لشراء نسخها‏.‏


تساوت في هذا المسلك الصحف الخاصة والحزبية والقومية والاقنية التليفزيونية الرسمية والخاصة‏,‏ إذ يحرص الوزير من أولئك ـ حين يقوم بتشكيل حاشيته ـ علي تنويع ارتباطات وانتماءات أعضائها‏,‏ ليضمن سعة الانتشار‏,‏ وتدفق التغطية والأخبار‏.‏


وربما يكون في تلك الظاهرة تفسير لغياب‏(‏ الخبر‏)‏ في الصحف ووسائل الإعلام المصرية‏,‏ إذ أصبحت المادة المنشورة فيها أشبه بالبيانات الوزارية‏,‏ وما تعيده فيها تزيده‏,‏ وأملهم هو أن يكون النشر مرصعا بصورة الوزير‏(‏ مرة وهو يبتسم ومرة وهو متجهم ومرة وهو يفكر لا ندري في ماذا بالضبط‏).‏


وساعد علي اغتيال الخبر في الصحف المصرية‏,‏ وبالذات القومية‏,‏ أن حاشيات بعض الوزراء اتسع نطاقها لتشتمل فيما تشتمل علي عدد من صحفيي الجرائد باتوا يعملون في مكاتب الوزراء تحت تسمية‏(‏ خبير اعلامي‏)‏ أو‏(‏ مستشار إعلامي‏)‏ وإلي هنا والخسائر ربما تكون محدودة‏,‏ ولكن دائرة عمل مثل أولئك الصحفيين امتدت الي ما أسميه مهام الانذار المبكر‏,‏
حين تتضمن المادة المعدة للنشر في الجريدة شيئا في انتقاد الوزير‏,‏ أو وزارته‏,‏ أو قراراته‏,‏ أو سياساته‏,‏ فيعمد ذلك الصحفي‏(‏ الخبير ـ المستشار‏)‏ إلي ابلاغ الوزير فيوجه الأخير ضربة إجهاض‏,‏ مهاتفا المسئول عن الصحيفة أو رئيس تحريرها‏,‏ مؤاخذا في عبارات رقيقة‏,‏ تتضمن كلاما عن‏(‏ العشم‏),‏ وأن ذلك ربما يأتي من الأغراب ولكن لا ينبغي أن يأتي منك‏,‏ وعادة يستجيب رئيس التحرير للعتب‏,‏ فيرفع أسبابه من الصحيفة‏,‏ ويمنع نشر المادة التي عرف الوزير بأمرها‏,‏ فمال واحتجب‏,‏ وادعي الغضب‏.‏


فلاسفة اللحظة السياسية والمهنية في مصر يتحدثون ـ كثيرا ـ عن تعارض المصالح بين المنصب الوزاري والبيزنيس الخاص للوزير‏,‏ ولكن أحدهم لا ينتبه الي تعارض المصالح بين عمل الصحفي في جريدته‏,‏ واشتغاله مستشارا أو خبيرا في مكتب الوزير‏.‏


و‏(‏بالمناسبة فأنا لست ضد عمل الصحفي في عشرات من وسائل الإعلام لو أراد ولكنني ضد عمله في هذه الصيغة علي وجه التحديد‏).‏


هذه صيغة ينبغي تصحيحها لكي يصبح عندنا في صحفنا‏(‏ أخبار‏).‏


ومع ذلك فقد جاء حديثي عنها في إطار تعرضي لثقافة الحاشية‏,‏ التي لم أجد لها مثيلا في أية دولة متقدمة‏,‏ فأنت ربما تجلس في قاعة مسرح أو مباراة تنس بريطانيتين فتجد إلي جوارك أحد وزراء الحكومة‏,‏ أو نجوم ورموز الإدارة‏,‏ واذا اضطرت الظروف مسئولا ما أن يضايقك ـ لظروف عمله الرسمي ـ فإنك تتلقي ـ فورا ـ اعتذارا وترضية مناسبين‏.‏

وأذكر في إحدي ليالي عام‏1998‏ ـ وكنت وقتها مديرا لمكتب الأهرام في لندن ـ أن حجزت طاولة للعشاء مع ثلاثة من نواب مجلس العموم البريطاني في مطعم‏(‏ بون دو لاتور‏)‏ علي التيمس‏,‏

وهو أحد مطاعم سير يكرانس كونران الذي غير شكل المطاعم البريطانية التقليدي بسلاسل تواجولينوس وميتزو وغيرها‏,‏ وعادة ما يكون الحجز في بون دولاتور قبلها بأيام‏,‏ وهو ما فعلت وتلقيت تأكيدا بإتمام كل شيء‏,‏ ثم فوجئت قبلها باتصال من مدير المكان يرجوني تأخير موعدي لساعة من الزمان لأن رئيس الوزراء توني بلير وزوجته شيري دعيا ضيفيهما الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وزوجته هيلاري‏,‏ واحتاج المطعم طاولتي‏,‏ قبلت التأجيل أمام سيل من الاعتذارات وطلبات المسامحة‏,‏ وفي نهاية الأمر حصلت علي خصم معتبر في الفاتورة من دون أن أطلبه‏.‏

ولكن‏..‏ حين وصلت الي جوار المطعم عند برج لندن‏(‏ معني اسمه الفرنسي هو‏:‏ مكان الي جوار البرج‏(Pontdelatour)‏ لم أجد في انتظار الضيف والمضيف سوي اثنين من الموظفين وطاقم الحراسة‏.‏

لم ترتبك الدنيا‏,‏ ولم يعج المكان بالصحفيين‏,‏ كل ما في الأمر أن أحدهم تواجد ـ بمحض المصادفة ـ في المكان فالتقط صورة نشرتها الجارديان صبيحة اليوم التالي‏.‏


ما قصدت ـ عبر القصة الطويلة ـ هو الإشارة الي أن حاشيات الوزراء عندنا لا مثيل لها في الدنيا‏,‏ وأن أعداد الصحفيين الذين يجندونهم فاقت عدد الوفد الإعلامي الذي يصاحب رئيس الجمهورية في مهام لها صفة الخطورة والتأثير علي مستقبل البلد‏.‏


تلك الهوجة التي تحيط وزيرا عندنا من أشخاص يتدافعون في هرولة أو دهولة‏,‏ هي ظاهرة مصرية مائة في المائة‏,‏ لا تعني سوي الاستقواء علي الناس دافعي الضرائب ودافعي مرتبات أولئك الوزراء الذين ـ فيما هو مفترض ـ يعملون عند الناس‏,‏ وديدنهم ينبغي أن يكون خدمة أولئك الناس‏,‏ ونحن نري السياسيين في الخارج حين يطرحون أنفسهم علي الجمهور انتخابيا يقولون إنهم يريدون مجرد فرصة ليخدموا‏.opportunitytoserve))‏ يعني المسئول التنفيذي هو خادم للناس‏,‏ وليس سيدا عليهم‏.‏


المثير أن عدوي الحاشية انتقلت ـ مع تحولات الزمن الجديد ـ الي رجال الأعمال المتمولين فصرنا نرصد هلاتهم وطلاتهم علي أي مكان محاطة بجيوش من الخدم والحشم والحراس‏(‏ الذين لا نعرف ـ علي وجه الدقة ـ ماذا يحرسون فيهم‏,‏ إذ أننا ـ نحن ـ الذين نحتاج الي حراسة من بعضهم‏).‏


ولكنه نفس منطق الاحاطة بعصبة أو حاشية‏,‏ أو الإشارة الثقيلة جدا للأهمية‏,‏ والتي لا تتمتع بأي ملمح كياسة أو ترفق بالناس‏,‏ وصار هو السائد في كل حركة يأتيها أحد هؤلاء‏.‏


زجاج السيارات بات غامقا‏,‏ والستائر السوداء أسدلت لإضفاء الغموض‏,‏ وطقس الحركات خيم علي تحركاتهم وظللها‏,‏ ورهط من الصحفيين والاعلاميين تم توظيفه في خدمة المتمول رجل الأعمال‏(‏ هذا ان لم ينشيء صحيفة أو قناة تليفزيونية‏)‏ ليسهم هذا الجمع مرة أخري‏,‏ في تغييب واغتيال‏(‏ الخبر‏)‏ اذ إن ما ينشر في جرائدنا ـ لو أذنتم ـ ليس أخبارا وإنما هو صناعة وصياغة للمعلومات علي قد وكيف ومزاج ومصالح من يقوم بإملائها‏.‏


ولن أعيد ما ذكرته آنفا لأطبقه علي الحاشيات التي باتت تحوط هذا المغني أو ذاك‏,‏ أو هذه الفنانة أو تلك‏,‏ أو رئيس مؤسسة أيا كانت طبيعتها‏,‏ ولكنني أدعوكم معي الي التوقف ببعض التأمل والانتباه أمام بعض الأشخاص ـ من غير ذوي الحيثية المهنية أو السياسية ـ علي الإطلاق ـ والذين لا يتحركون الآن إلا وسط زحام حاشياتهم‏,‏ ونفس الجري‏,‏ والخبط والرزع‏,‏ والتصوير‏,‏ واصطحاب عدد من الصحفيين يقومون بنشر أخبارهم بانتظام في صفحات المجتمع بالجرائد والمجلات السيارة‏,‏ إذ إن إضفاء الأهمية علي مثل أولئك ـ ولو جاء من ذواتهم فحسب ـ هو لون من الاحتفاء بـالصيع‏.‏


‏الظاهرة أصبحت تعبيرا عن ثقافة سائدة جوهرها ومنطقها هو الاستقواء‏,‏ وضغط الناس‏,‏ وحشرهم إلي أبعد بعيد‏,‏ وإطاحتهم من مواقعهم‏,‏ ومكاناتهم لصالح حائزي القوة في بلدنا السعيد‏(‏ مناصبا سياسية‏,‏ أو قدرات مالية أو وسائط للتأثير صحفية وإعلامية‏,‏ أو مجرد بلطجة وادعاء للأهمية‏)!

د . عمرو عبدالسميع الاهرام 21 / 7 / 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق