الاثنين، 10 أغسطس 2009

حين تغيب الدولة



حين يعيش المواطن في ظل دولة نظامها‮ ‬غير ديمقراطي،‮ ‬فهذا أمر تكرر في بلدان كثيرة من أوروبا إلي العالم العربي،‮ ‬ولكن حين يعيش هذا المواطن‮ ‬في ظلال دولة،‮ ‬لا تحافظ علي أمنه ولا تنظف له شارعًا ولا تقدم له تعليما ولا صحة ولا خدمات،‮ ‬وتختفي حين ينتظر دورها،‮ ‬ويجدها جاثمة علي أنفاسه حين لا تكون مطلوبة،‮ ‬فإن هذا يعني أننا في بلد نال مواطنوه‮ »‬الحسنيين‮« ‬أي‮ ‬غياب الديمقراطية وتدهور أداء مؤسسات الدولة‮.‬ والمؤكد أن أهم ما ميز مصر عن كل جيرانها العرب‮ (‬باستثناء المغرب‮) ‬أنها امتلكت دولة عريقة بنت مؤسساتها الوطنية الحديثة منذ أكثر من قرنين علي يد محمد علي،‮

‬وبدا أمرا مؤلما أن أداءها الرفيع في فترات،‮ ‬والجيد في فترات أخري يصل إلي هذا المستوي من التدهور وانعدام الكفاءة،‮ ‬فأغلب المؤسسات العامة تعاني من انهيار في الأداء،‮ ‬وقتل للمواهب ولقيمة العمل والإنتاج،‮ ‬وصار الأداء العام لمجمل النظام السياسي متدهورا بعد أن ترك أداء الدولة ومؤسساتها العامة تدهور إلي هذه الدرجة،‮ ‬وأصبح نضال‮ "‬بعض‮" ‬المصريين‮ ‬غير قاصر فقط علي بناء نظام ديمقراطي،‮ ‬إنما أيضا وربما‮ ‬يكون أساسا في إعادة هيبة الدولة ودورها‮.

‬ وجاء هذا التدهور بسبب عجز النظام السياسي عن وضع معايير شفافة لاختيار قياداته العليا فارتاح إلي الموظفين المطيعين علي حساب معايير الكفاءة والجدية،‮ ‬وهو ما أدي إلي تصاعد مجموعة من الظواهر المقلقة،‮ ‬اتضحت في عجز الدولة عن إنقاذ ألف شخص من الموت أثناء‮ ‬غرق العبارة نتيجة تأخر فرق الإنقاذ عن التحرك لأكثر من‮ ‬14‭ ‬ساعة،‮ ‬كما شاهدنا مؤخرا تضاعفًا في حوادث الطرق نتيجة الإهمال والفوضي وغياب معايير السلامة،‮ ‬رغم صدور قانون المرور الجديد الذي اهتم بجمع المخالفات من الشوارع المهجورة،‮ ‬وتركها‮ (‬إلا فيما ندر‮ ) ‬علي الطرق السريعة‮. ‬ وانتقل هذا التدهور في‮ ‬الأداء العام إلي مظاهر الحياة اليومية،‮ ‬

وتحولت الصورة‮ "‬الحديثة‮ " ‬للقاهرة،‮ ‬إلي ساحة حربية للعراك اليومي بين السائقين والمارة،‮ ‬وبين سيارات الميكروباص‮ (‬التي احتلت الميادين والشوارع‮) ‬في مواجهة سائقي النقل العام والسيارات الخاصة والمواطنين،‮ ‬وصار المشهد البائس لعاصمة لا تعمل بها إشارات المرور ويترك السير فيها للذراع‮ ‬والعافية،‮ ‬ووصلت فيها أطنان القمامة الملقاة في شوارعها إلي حوالي‮ ‬7‮ ‬آلاف طن،‮ ‬وبدت الدولة عاجزة أو‮ ‬غير راغبة في تحمل مسئوليتها في إدارة الشئون العامة‮ ( ‬تعليم صحة نقل أمن‮ ‬غير سياسي‮ ) ‬للمواطنين‮.‬

ورغم أن الدولة في ظل النظم الجمهورية اعتادت أن تتخاصم مع المعارضين السياسيين كما جري في عهدي عبد الناصر والسادات،‮ ‬إلا أننا‮ ‬لأول مرة نشاهد الدولة تتخاصم مع المواطنين‮ ‬غير السياسيين،‮ ‬الذين تقف طموحاتهم عند حدود‮ ‬وسيلة انتقال آدمية لا تزهق أرواحهم،‮ ‬ومياه صالحة للشرب لاتختلط بمياه الصرف الصحي،‮ ‬وبيت متواضع لا يسقط علي رؤوسهم،‮ ‬وحد أدني من العدالة والكرامة الإنسانية‮. ‬ والمؤكد أنه لا ينتظر أن تقدم الدولة في مجتمع عسر كمصر خدمات متطورة وحديثة لمواطنيها،‮ ‬كتلك التي تقدمها الدولة في بريطانيا أو فرنسا،‮

‬إنما كانت الدولة في مصر دائما ذات تقاليد‮ ( ‬بما فيها أحهزتها الأمنية‮ ) ‬منذ تأسيسها بصورة حديثة علي يد محمد علي في‮ ‬1805م،‮ ‬قادرة بكفاءتها النسبية وبتقاليدها أن تحد من أخطاء السياسة،‮ ‬وظل جانب كبير من هذه المؤسسات كالقضاء‮ ‬يحمي المواطن من بطش السياسة وانحرافها،‮ ‬وظل قادرا علي تقديم الحد الادني من الخدمات للمواطنين البسطاء ولو بكفاءة محدودة‮. ‬ وقد عكس هذا الوضع أزمة سياسية‮ ‬غير مسبوقة،‮ ‬نتيجة تراجع احترام القانون وفرض هيبة الدولة‮ ( ‬غير الأمنية‮ ) ‬علي المجتمع،‮ ‬وانتقلت الحكومة من حالة‮ ‬إدارة العمل اليومي إلي حالة إدارة التسيب اليومي،‮ ‬واستقر التبلد والجمود في السياسة الذي انتقل بدوره إلي الإدارة‮ ‬والمؤسسات العامة والخاصة،‮ ‬

وأصبح من الصعب أن نري رقابة سياسية جادة علي الاداء العام وعلي مؤسسات الدولة‮. ‬ إن هناك خطرًا حقيقىًا في أن تشهد البلاد‮ "‬انتفاضات‮ ‬غير سياسية‮" ‬لن تحتج علي الغلاء ويقودها اليسار كما حدث في انتفاضة‮ ‬1977،‮ ‬ولا من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية وإعلان الجهاد علي إسرائيل نتيجة تعبئة يقوم بها الإخوان المسلمون،‮ ‬ولا بالاحتجاج علي‮ ‬غياب الإصلاحات السياسية تقوم بها مختلف القوي السياسية،‮ ‬إنما سيحتج الناس علي الحوادث والأخطاء التي سترتكبها الحكومة نتيجة عجزها عن الاحتفاظ بالحد الأدني من مستوي الأداء العام للدولة المصرية،‮ ‬ولن يكون له علاقة لا بالإخوان ولا بحركة كفاية،‮ ‬ولا باليسار ولا اليمين،

‮ ‬إنما هي نتاج‮ ‬عصر الفوضي‮ ‬وغياب السياسة ودولة القانون‮. ‬ وسيبقي التحدي الحقيقي الذي يواجه مصر هو مواجهة هذه الفوضي،‮ ‬وهذا التدهور في الأداء العام،‮ ‬قبل أن نستيقظ جميعًا علي يوم سنجد فيه أن شوارع القاهرة قد توقف السير فيها‮ ( ‬بسبب الفوضي وغياب القانون وليس زيادة عدد السكان‮ )‬،‮ ‬وأن العقارات الآيلة للسقوط قد انهارت علي رؤوس من فيها،‮ ‬وأن البلطجة وطلقات الرصاص ستصبح لغة التعامل الجديدة ليس فقط بين مافيا الفساد إنما أيضا بين المواطنين والأهل والأقارب،‮ ‬هذا في الحقيقة الخطر الأعظم الذي تواجهه مصر حين تغيب الدولة،‮ ‬ويجتهد كل مواطن علي طريقته لبناء‮ "‬دولة‮" ‬موازية لا تحمل إلا عوامل الفوضي وعدم الاستقرار‮. ‬

د. عمرو الشوبكى / الوفد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق