حين يعيش المواطن في ظل دولة نظامها غير ديمقراطي، فهذا أمر تكرر في بلدان كثيرة من أوروبا إلي العالم العربي، ولكن حين يعيش هذا المواطن في ظلال دولة، لا تحافظ علي أمنه ولا تنظف له شارعًا ولا تقدم له تعليما ولا صحة ولا خدمات، وتختفي حين ينتظر دورها، ويجدها جاثمة علي أنفاسه حين لا تكون مطلوبة، فإن هذا يعني أننا في بلد نال مواطنوه »الحسنيين« أي غياب الديمقراطية وتدهور أداء مؤسسات الدولة. والمؤكد أن أهم ما ميز مصر عن كل جيرانها العرب (باستثناء المغرب) أنها امتلكت دولة عريقة بنت مؤسساتها الوطنية الحديثة منذ أكثر من قرنين علي يد محمد علي، وبدا أمرا مؤلما أن أداءها الرفيع في فترات، والجيد في فترات أخري يصل إلي هذا المستوي من التدهور وانعدام الكفاءة، فأغلب المؤسسات العامة تعاني من انهيار في الأداء، وقتل للمواهب ولقيمة العمل والإنتاج، وصار الأداء العام لمجمل النظام السياسي متدهورا بعد أن ترك أداء الدولة ومؤسساتها العامة تدهور إلي هذه الدرجة، وأصبح نضال "بعض" المصريين غير قاصر فقط علي بناء نظام ديمقراطي، إنما أيضا وربما يكون أساسا في إعادة هيبة الدولة ودورها. وجاء هذا التدهور بسبب عجز النظام السياسي عن وضع معايير شفافة لاختيار قياداته العليا فارتاح إلي الموظفين المطيعين علي حساب معايير الكفاءة والجدية، وهو ما أدي إلي تصاعد مجموعة من الظواهر المقلقة، اتضحت في عجز الدولة عن إنقاذ ألف شخص من الموت أثناء غرق العبارة نتيجة تأخر فرق الإنقاذ عن التحرك لأكثر من 14 ساعة، كما شاهدنا مؤخرا تضاعفًا في حوادث الطرق نتيجة الإهمال والفوضي وغياب معايير السلامة، رغم صدور قانون المرور الجديد الذي اهتم بجمع المخالفات من الشوارع المهجورة، وتركها (إلا فيما ندر ) علي الطرق السريعة. وانتقل هذا التدهور في الأداء العام إلي مظاهر الحياة اليومية، وتحولت الصورة "الحديثة " للقاهرة، إلي ساحة حربية للعراك اليومي بين السائقين والمارة، وبين سيارات الميكروباص (التي احتلت الميادين والشوارع) في مواجهة سائقي النقل العام والسيارات الخاصة والمواطنين، وصار المشهد البائس لعاصمة لا تعمل بها إشارات المرور ويترك السير فيها للذراع والعافية، ووصلت فيها أطنان القمامة الملقاة في شوارعها إلي حوالي 7 آلاف طن، وبدت الدولة عاجزة أو غير راغبة في تحمل مسئوليتها في إدارة الشئون العامة ( تعليم صحة نقل أمن غير سياسي ) للمواطنين. ورغم أن الدولة في ظل النظم الجمهورية اعتادت أن تتخاصم مع المعارضين السياسيين كما جري في عهدي عبد الناصر والسادات، إلا أننا لأول مرة نشاهد الدولة تتخاصم مع المواطنين غير السياسيين، الذين تقف طموحاتهم عند حدود وسيلة انتقال آدمية لا تزهق أرواحهم، ومياه صالحة للشرب لاتختلط بمياه الصرف الصحي، وبيت متواضع لا يسقط علي رؤوسهم، وحد أدني من العدالة والكرامة الإنسانية. والمؤكد أنه لا ينتظر أن تقدم الدولة في مجتمع عسر كمصر خدمات متطورة وحديثة لمواطنيها، كتلك التي تقدمها الدولة في بريطانيا أو فرنسا، إنما كانت الدولة في مصر دائما ذات تقاليد ( بما فيها أحهزتها الأمنية ) منذ تأسيسها بصورة حديثة علي يد محمد علي في 1805م، قادرة بكفاءتها النسبية وبتقاليدها أن تحد من أخطاء السياسة، وظل جانب كبير من هذه المؤسسات كالقضاء يحمي المواطن من بطش السياسة وانحرافها، وظل قادرا علي تقديم الحد الادني من الخدمات للمواطنين البسطاء ولو بكفاءة محدودة. وقد عكس هذا الوضع أزمة سياسية غير مسبوقة، نتيجة تراجع احترام القانون وفرض هيبة الدولة ( غير الأمنية ) علي المجتمع، وانتقلت الحكومة من حالة إدارة العمل اليومي إلي حالة إدارة التسيب اليومي، واستقر التبلد والجمود في السياسة الذي انتقل بدوره إلي الإدارة والمؤسسات العامة والخاصة، وأصبح من الصعب أن نري رقابة سياسية جادة علي الاداء العام وعلي مؤسسات الدولة. إن هناك خطرًا حقيقىًا في أن تشهد البلاد "انتفاضات غير سياسية" لن تحتج علي الغلاء ويقودها اليسار كما حدث في انتفاضة 1977، ولا من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية وإعلان الجهاد علي إسرائيل نتيجة تعبئة يقوم بها الإخوان المسلمون، ولا بالاحتجاج علي غياب الإصلاحات السياسية تقوم بها مختلف القوي السياسية، إنما سيحتج الناس علي الحوادث والأخطاء التي سترتكبها الحكومة نتيجة عجزها عن الاحتفاظ بالحد الأدني من مستوي الأداء العام للدولة المصرية، ولن يكون له علاقة لا بالإخوان ولا بحركة كفاية، ولا باليسار ولا اليمين، إنما هي نتاج عصر الفوضي وغياب السياسة ودولة القانون. وسيبقي التحدي الحقيقي الذي يواجه مصر هو مواجهة هذه الفوضي، وهذا التدهور في الأداء العام، قبل أن نستيقظ جميعًا علي يوم سنجد فيه أن شوارع القاهرة قد توقف السير فيها ( بسبب الفوضي وغياب القانون وليس زيادة عدد السكان )، وأن العقارات الآيلة للسقوط قد انهارت علي رؤوس من فيها، وأن البلطجة وطلقات الرصاص ستصبح لغة التعامل الجديدة ليس فقط بين مافيا الفساد إنما أيضا بين المواطنين والأهل والأقارب، هذا في الحقيقة الخطر الأعظم الذي تواجهه مصر حين تغيب الدولة، ويجتهد كل مواطن علي طريقته لبناء "دولة" موازية لا تحمل إلا عوامل الفوضي وعدم الاستقرار. د. عمرو الشوبكى / الوفد | |
| |
الاثنين، 10 أغسطس 2009
حين تغيب الدولة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق