ربما يساورنا الشك، كثيراً أو قليلاً، حول العلاقة بين الديمقراطية أوالدكتاتورية من ناحية، ومدي ما يتمتع به المجتمع من صحة اقتصادية، أوما يعانيه من أمراض اقتصادية من ناحية أخري. وفي ظني أن نظام الحكم، من حيث كونه ديمقراطياً أواستبدادياً، يؤثر بشكل قوي علي الصحة الاقتصادية للمجتمع لان نظام الحكم ليس مجرد مسألة سياسية وإنما هو مسألة تتعلق بكافة جوانب الحياة التي يحياها الناس، اجتماعياً، وثقافياً، واقتصادياً، فضلاً عن الجانب السياسي بطبيعة الحال، وهنا سوف أحاول التركيز علي الجانب الاقتصادي فقط من حياة الناس.
ولاشك في أن هناك علاقة وطيدة بين الديمقراطية والازدهار الاقتصادي من ناحية،والدكتاتورية والتدهور الاقتصادي من ناحية أخري. ولأن المجال لايسمح بأي نوع من الدراسة التحليلية فإننا سنكتفي بالاشارة لبعض الحقائق العامة والخطوط العريضة لهذه المسألة، كما نشير الي بعض الأمثلة المعاصرة للتدليل علي صحة هذا الفرض. فالديمقراطية »تكاليفها« رخيصة، وعوائدها أو »مكاسبها« عالية، ففي ظل الحكم الديمقراطي يأتي الحكم ويذهب بإرادة الناس في انتخابات حقيقية،
ويتم تداول الحكم بشكل سلمي،والحكومة في المفهوم الديمقراطي »إدارة« تدير شئون الناس لصالحهم، فإذا أخفقت كانت الانتخابات والتداول السلمي للحكم وسيلتهم في تغييرها،ويعني هذا ان الحاكم »يعرف« أنه جاء بارادة الناس ويمكن ان يذهب بارادتهم ايضاً دونما خوف علي حياته من القتل أو الاغتيال، ومن ثم، فانه لن يحتاج الي الاعتماد علي الأجهزة البوليسية والأمنية التي تحميه من الناس، وهو ما يوفر نفقات مثل هذه الأجهزة لتصب في صالح التعليم، أو الصحة، أو التنمية، وخلق فرص عمل جديدة. ومن ناحية أخري، فإن الأساس في الديمقراطية هو »الإباحة« و»الحرية« وليس »المنع« و»التقييد« كام هو الحال في الحكم الديكتاتوري. أما في ظل الحكم الاستبدادي، فالحاكم »يعرف« انه يحكم »بالعافية«، وأن عليه ان يعتمد علي الأجهزة الأمنية في حمايته ـ ولكن ممن؟ من الناس طبعاً،
وهو ما يعني بالضرورة »مراقبة« الناس واقرار مبدأ »المنع« ليكون فلسفة الحكم،وهنا نجد ان الاجهزة الأمنية تأخذ في التمدد والنمو علي حساب قطاعات مهمة في المجتمع وفي جهاز الدولة بحجة »المراقبة« وانطلاقاً من فلسفة »المنع«، بحيث يكون السلوك الأسهل لدي هذه الأجهزة هو»المنع« »انظر مثلاً الي اغلاق أجزاء من المدن، أو اغلاق مدن كاملة في حال زيارة للرئيس،وانظر لعدد الابواب المغلقة في الجامعات وحشر الطلبة في بوابتين او ثلاث، وانظر ايضاً للبوابات المغلقة في معرض الكتاب أو غيره«، فالاجهزة البوليسية تراقب الجميع، من موظفي الدولة، وأساتذة الجامعات، والأنشطة الاقتصادية الصغيرة، والفعاليات الاجتماعية والثقافية، علي شتي المستويات، وفي كل الأحوال يتم تعطيل مصالح الناس، وخلق جو من الخوف، وعدم الرغبة في المشاركة مع كل ما ينتج عن ذلك بالضرورة من نتائج سلبية.
ولا ضرورة لأن نشير الي ما هو معروف من ان هذه الأجهزة تتطلب ميزانيات ضخمة مع زيادة أعدادها، وتكاليف تدريبها وتسليحها واعاشتها وتجهيزها: فضلاً عن الرواتب والمكافآت السخية لزيادة ولائها ولاسترضاء أفرادها، ومن الطبيعي أن يأتي ذلك علي حساب ميزانيات التعليم والصحة والتنمية، فضلاً عن ان الاهتمام بأمن النظام يكون بالضرورة علي حساب أمن المجتمع والأفراد، وحرياتهم، وحقوقهم التي تنص عليها القوانين المحلية والمواثيق الدولية. ان الديمقراطية ليست عصا موسي السحرية التي تلقف ثعابين الفقر والتخلف والانحدار الاقتصادي فيما يشبه المعجزة، انما ترتبط ارتباطاً موضوعياً وعلمياً بكل مظاهر التقدم والازدهار،
فالحرية، وانعدام الخوف، والاطمئنان الي حكم القانون يجعل الناس يعيشون عيشة طبيعية يتنسمون فيها هواء الحرية الذي ينعش وجدانهم ويدفع الدماء في شرايين اقتصادهم. كما ان الدكتاتورية، علي الجانب الآخر، تفرض جو الظلام الذي تنتعش فيه خفافيش الرشوة والفسادوالمحسوبية،و تطرد العقول المستنيرة، وتقرب اصحاب العقول الفاسدة والنفوس العفنة وتفسد شرايين البلاد الاقتصادية بفعل مبدأ المنع والمراقبة، وتزرع الخوف في نفوس الناس بحيث يحجمون عن العمل ويخافون من الابداع، فيهرب القادرون علي الهرب الي الخارج، ويهرب غير القادرين الي الداخل حيث يحافظون علي الحد الأدني من وجودهم بلا فاعلية، وينشب الفقر مخالبه في البلاد، ويرتع الفساد والفاسدون، ويذوي الفكر والفن والثقافة والابداع، فالخائفون لا يبدعون والمستبعدون لا ينتجون.
ويعرف المتابعون للشئون السياسية العالمية جيداً مدي التخلف الاقتصادي الذي عانته اليونان في ظل الدكتاتورية العسكرية،ومدي ازمة اسبانيا والاسبان تحت وطأة حكم الجنرال فرانكو ودولته البوليسية، وما كابدته تركيا في ظل الحكم العسكري فضلاً عما كانت تعانيه دول شرق أوروبا تحت نير الحكومات الشيوعية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن هذه البلاد جميعاً ازدهرت في خطوات متسارعة عندما هبت عليها رياح الديمقراطية، فمن ذا الذي ينكر ما تنعم به اسبانيا في ظل حكوماتها الديمقراطية، والخير الذي جلبته الحرية علي اليونان، وها هي تركيا تزهو بديمقراطيتها واقتصادها المزدهر.
فهل رأيتم المجر بعد ان تحررت من الاستبداد والدكتاتورية؟ ان »الحكومة« في ظل الاستبداد والديكتاتورية »تتحكم«، وتتسلط »وتراقب« و»تمنع«! فتعود ممارساتها بالخسران علي الأمة كلها، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما يقال بحق ولكن الحكومة في ظل الديمقراطية »تدير« لصالح الأمة، وتسعي الي مصالح الاغلبية، وتفتح نوافذ الحرية، فيقبل الناس علي الاستثمار، والعمل لانهم يعرفون انهم في بلادهم و»ليسوا في بلد الحكومة« وحدها. تري هل يحتاج الأمر الي مزيد من الوضوح؟
د. قاسم عبده قاسم / الوفد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق