الاثنين، 10 أغسطس 2009

الديمقراطية والدكتاتورية والصحة الاقتصادية




ربما‮ ‬يساورنا الشك،‮ ‬كثيراً‮ ‬أو قليلاً،‮ ‬حول العلاقة بين الديمقراطية أوالدكتاتورية من ناحية،‮ ‬ومدي ما‮ ‬يتمتع به المجتمع من صحة اقتصادية،‮ ‬أوما‮ ‬يعانيه من أمراض اقتصادية من ناحية أخري‮. ‬وفي ظني أن نظام الحكم،‮ ‬من حيث كونه ديمقراطياً‮ ‬أواستبدادياً،‮ ‬يؤثر بشكل قوي علي الصحة الاقتصادية للمجتمع لان نظام الحكم ليس مجرد مسألة سياسية وإنما هو مسألة تتعلق بكافة جوانب الحياة التي‮ ‬يحياها الناس،‮ ‬اجتماعياً،‮ ‬وثقافياً،‮ ‬واقتصادياً،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن الجانب السياسي بطبيعة الحال،‮ ‬وهنا سوف أحاول التركيز علي الجانب الاقتصادي فقط من حياة الناس‮.‬

ولاشك في أن هناك علاقة وطيدة بين الديمقراطية والازدهار الاقتصادي من ناحية،والدكتاتورية والتدهور الاقتصادي من ناحية أخري‮. ‬ولأن المجال لايسمح بأي نوع من الدراسة التحليلية فإننا‮ ‬سنكتفي بالاشارة لبعض الحقائق العامة والخطوط العريضة لهذه المسألة،‮ ‬كما نشير الي بعض الأمثلة المعاصرة للتدليل علي صحة هذا الفرض‮.‬ فالديمقراطية‮ »‬تكاليفها‮« ‬رخيصة،‮ ‬وعوائدها أو‮ »‬مكاسبها‮« ‬عالية،‮ ‬ففي ظل الحكم الديمقراطي‮ ‬يأتي الحكم ويذهب بإرادة الناس في انتخابات حقيقية،‮ ‬

ويتم تداول الحكم بشكل سلمي،والحكومة في المفهوم الديمقراطي‮ »‬إدارة‮« ‬تدير شئون الناس لصالحهم،‮ ‬فإذا أخفقت كانت الانتخابات والتداول السلمي للحكم وسيلتهم في تغييرها،ويعني هذا ان الحاكم‮ »‬يعرف‮« ‬أنه جاء بارادة الناس ويمكن ان‮ ‬يذهب بارادتهم ايضاً‮ ‬دونما خوف علي حياته من القتل أو الاغتيال،‮ ‬ومن ثم،‮ ‬فانه لن‮ ‬يحتاج الي الاعتماد علي الأجهزة البوليسية والأمنية التي تحميه من الناس،‮ ‬وهو ما‮ ‬يوفر نفقات مثل هذه الأجهزة لتصب في صالح التعليم،‮ ‬أو الصحة،‮ ‬أو التنمية،‮ ‬وخلق فرص عمل جديدة‮. ‬ومن ناحية أخري،‮ ‬فإن الأساس في الديمقراطية هو‮ »‬الإباحة‮« ‬و»الحرية‮« ‬وليس‮ »‬المنع‮« ‬و»التقييد‮« ‬كام هو الحال في الحكم الديكتاتوري‮.‬ أما في ظل الحكم الاستبدادي،‮ ‬فالحاكم‮ »‬يعرف‮« ‬انه‮ ‬يحكم‮ »‬بالعافية‮«‬،‮ ‬وأن عليه ان‮ ‬يعتمد علي الأجهزة الأمنية في حمايته ـ ولكن ممن؟ من الناس طبعاً،‮

‬وهو ما‮ ‬يعني بالضرورة‮ »‬مراقبة‮« ‬الناس واقرار مبدأ‮ »‬المنع‮« ‬ليكون فلسفة الحكم،وهنا نجد ان الاجهزة الأمنية تأخذ في التمدد والنمو علي حساب قطاعات مهمة في المجتمع وفي جهاز الدولة بحجة‮ »‬المراقبة‮« ‬وانطلاقاً‮ ‬من فلسفة‮ »‬المنع‮«‬،‮ ‬بحيث‮ ‬يكون السلوك الأسهل لدي هذه الأجهزة هو»المنع‮« »‬انظر مثلاً‮ ‬الي اغلاق أجزاء من المدن،‮ ‬أو اغلاق مدن كاملة في حال زيارة للرئيس،وانظر لعدد الابواب المغلقة في الجامعات وحشر الطلبة في بوابتين او ثلاث،‮ ‬وانظر ايضاً‮ ‬للبوابات المغلقة في معرض الكتاب أو‮ ‬غيره‮«‬،‮ ‬فالاجهزة البوليسية تراقب الجميع،‮ ‬من موظفي الدولة،‮ ‬وأساتذة الجامعات،‮ ‬والأنشطة الاقتصادية الصغيرة،‮ ‬والفعاليات الاجتماعية والثقافية،‮ ‬علي شتي المستويات،‮ ‬وفي كل الأحوال‮ ‬يتم تعطيل مصالح الناس،‮ ‬وخلق جو من الخوف،‮ ‬وعدم الرغبة في المشاركة مع كل ما‮ ‬ينتج عن ذلك بالضرورة من نتائج سلبية‮.‬

ولا ضرورة لأن نشير الي ما هو معروف من ان هذه الأجهزة تتطلب ميزانيات ضخمة مع زيادة أعدادها،‮ ‬وتكاليف تدريبها وتسليحها واعاشتها وتجهيزها‮: ‬فضلاً‮ ‬عن الرواتب والمكافآت السخية لزيادة ولائها ولاسترضاء أفرادها،‮ ‬ومن الطبيعي أن‮ ‬يأتي ذلك علي حساب ميزانيات التعليم والصحة والتنمية،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن ان الاهتمام بأمن النظام‮ ‬يكون بالضرورة علي حساب أمن المجتمع والأفراد،‮ ‬وحرياتهم،‮ ‬وحقوقهم التي تنص عليها القوانين المحلية والمواثيق الدولية‮.‬ ان الديمقراطية ليست عصا موسي السحرية التي تلقف ثعابين الفقر والتخلف والانحدار الاقتصادي فيما‮ ‬يشبه المعجزة،‮ ‬انما ترتبط ارتباطاً‮ ‬موضوعياً‮ ‬وعلمياً‮ ‬بكل مظاهر التقدم والازدهار،‮ ‬

فالحرية،‮ ‬وانعدام الخوف،‮ ‬والاطمئنان الي حكم القانون‮ ‬يجعل الناس‮ ‬يعيشون عيشة طبيعية‮ ‬يتنسمون فيها هواء الحرية الذي‮ ‬ينعش وجدانهم ويدفع الدماء في شرايين اقتصادهم‮.‬ كما ان الدكتاتورية،‮ ‬علي الجانب الآخر،‮ ‬تفرض جو الظلام الذي تنتعش فيه خفافيش الرشوة والفسادوالمحسوبية،و تطرد العقول المستنيرة،‮ ‬وتقرب اصحاب العقول الفاسدة والنفوس العفنة وتفسد شرايين البلاد الاقتصادية بفعل مبدأ المنع والمراقبة،‮ ‬وتزرع الخوف في نفوس الناس بحيث‮ ‬يحجمون عن العمل ويخافون من الابداع،‮ ‬فيهرب القادرون علي الهرب الي الخارج،‮ ‬ويهرب‮ ‬غير القادرين الي الداخل حيث‮ ‬يحافظون علي الحد الأدني من وجودهم بلا فاعلية،‮ ‬وينشب الفقر مخالبه في البلاد،‮ ‬ويرتع الفساد والفاسدون،‮ ‬ويذوي الفكر والفن والثقافة والابداع،‮ ‬فالخائفون لا‮ ‬يبدعون والمستبعدون لا‮ ‬ينتجون‮.‬

ويعرف المتابعون للشئون السياسية العالمية جيداً‮ ‬مدي التخلف الاقتصادي الذي عانته اليونان في ظل الدكتاتورية العسكرية،ومدي ازمة اسبانيا والاسبان تحت وطأة حكم الجنرال فرانكو ودولته البوليسية،‮ ‬وما كابدته تركيا في ظل الحكم العسكري فضلاً‮ ‬عما كانت تعانيه دول شرق أوروبا تحت نير الحكومات الشيوعية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي السابق،‮ ‬ولكن هذه البلاد جميعاً‮ ‬ازدهرت في خطوات متسارعة عندما هبت عليها رياح الديمقراطية،‮ ‬فمن ذا الذي‮ ‬ينكر ما تنعم به اسبانيا في ظل حكوماتها الديمقراطية،‮ ‬والخير الذي‮ ‬جلبته الحرية علي اليونان،‮ ‬وها هي تركيا تزهو بديمقراطيتها واقتصادها المزدهر‮.

‬فهل رأيتم المجر بعد ان تحررت من الاستبداد والدكتاتورية؟ ان‮ »‬الحكومة‮« ‬في ظل الاستبداد والديكتاتورية‮ »‬تتحكم‮«‬،‮ ‬وتتسلط‮ »‬وتراقب‮« ‬و»تمنع‮«!‬ فتعود ممارساتها بالخسران علي الأمة كلها،‮ ‬فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة كما‮ ‬يقال بحق ولكن الحكومة في ظل الديمقراطية‮ »‬تدير‮« ‬لصالح الأمة،‮ ‬وتسعي الي مصالح الاغلبية،‮ ‬وتفتح نوافذ الحرية،‮ ‬فيقبل الناس علي الاستثمار،‮ ‬والعمل لانهم‮ ‬يعرفون انهم في بلادهم و»ليسوا في بلد الحكومة‮« ‬وحدها‮.‬ تري هل‮ ‬يحتاج الأمر الي مزيد من الوضوح؟ ‮ ‬

د. قاسم عبده قاسم / الوفد



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق