الأربعاء، 16 سبتمبر 2009

فلما دقت ساعة «زبالتنا»

جمال فهمى يكتب فى الدستور /

لست أعرف إن كان المجرم الهارب من وجه العدالة بنيامين نتنياهو صام يوم الأحد الماضي عن القتل والاغتصاب فكافأه الرئيس مبارك بالجلوس معه علي مائدة إفطار رمضانية عامرة (!!)

غير أنني مضطر أكمل من حيث انتهيت أمس حديث الجنون العبقري الذي توسل به سلفادور دالي عندما جعل «ساعاته الرخوة» في لوحته «إلحاح الذاكرة» تشل الزمن وتوقفه في إشارة أنزلها العديدون منزلة النبوءة بخراب أخلاقي وروحي ومادي سرعان ما ظهرت أقوي علاماته يوم لم يتورع الأمريكيون في نهاية الحرب العالمية الثانية عن استخدام قنبلتهم النووية التي صهرت وعجنت البشر بالحجر في هيروشيما ونجازاكي بغير مقتضي ولا ضرورة عسكرية إذ كانت اليابان هُزمت فعلا وعلي وشك الاستسلام.

قلت أمس إن دالي راقه هذا التفسير الذي رأي فيه نفياً لتهمة الهيافة واستخدام الجنون كبضاعة للنصب وحصد المال فحسب، ولهذا هجر حكاية «الجبنة السايحة وورقة الشيك» التي استغرب أن موظف البنك لا يأكلها وكف عن ترديد تفسيراته السابقة (الصادقة) لفكرة رخاوة الساعات وكيف استلهمها من الجبنة،

بل قرر ـ علي ما يبدو ـ تثبيت الانطباع بأن فنه المجنون خليق بالنبوءة حقا كما أنه ليس منزها عن اجتراح تعبيرات صاخبة عن المحن والمكابدات الإنسانية، فعاد في العام 1954واستخدم كل عناصر لوحة «الذاكرة» ابتداء من الساعات الرخوة والشجرة الجرداء حتي الخرتيت والجبل وأغرقها جميعا في لُجة ماء ثقيلة موحياً بأن الزمن المشلول مات والخراب لم يعد خطراً تتجمع نذره في الأفق بل واقعاً قائماً وأن الذاكرة التي كانت «تلح» وتئن «تفككت» فعلا علي ما يفصح اسم تلك اللوحة الجديدة «تفكك إلحاح الزمن».

كل هذه الحكاية عبرت بذهني وأنا واقف مشدوها في قاعة «كُنتي هول» اللندنية أمام لوحتي سلفادور دالي وتسرب مني الوقت وأنا مشغول بلعبة المقارنة بينهما التي انتهت بأن صارحت نفسي بأنني معجب أكثر باللوحة الأولي مع أن الثانية بدت لي أقرب تعبيرا عن حال الوطن الذي كان في هذه اللحظة راقداً في خاطري رغما عني،

ففكرة غرق أشياء اللوحة القديمة بما فيها ساعاتها الرخوة ومنظر الشجرة الجرداء بالذات وهي تطل بطرفها العلوي كشاهد قبر من الطوفان الغامر بينما الساعة الوحيدة التي لا تظهر في الماء تبدو جثة مبلولة مشعلقة علي غصنها العاري، كل هذا نسج في وجداني شعورا غائما ومبهما بالشجن بقي طعمه اللاذع حاضرا علي طرف لساني طوال أيام الغياب القصيرة،

لكنه استحال حزنا وحسرة لما عدت ومررت وأنا في طريقي من المطار إلي بيتي بسور مركز شباب الجزيرة وشاهدت عشرات الأشجار العتيقة التي كان خضارها الوارف يزين ويظلل رؤوس العابرين بشارع الجبلاية وقد امتدت إليها أيادي الهمجية والقبح فقتلتها وسحقت واجتثت خضارها وتركتها جثثا عارية تذكر الرائح والغادي بأننا في قلب الخراب نعيش،

لكني ما أن صعدت كوبري أكتوبر وهبطت من عليه ومالت بي السيارة نحو شارعنا مخترقة جبال الزبالة التي يئن ويغرق تحتها كل شيء في الشارع، داعبني ظن بأن الجنون ربما أخذ «دالي» دون قصد إلي رسم حال أوطان استكان أهلها واستسلموا لحكام يكرهون الشجر وتسعدهم الزبالة ويشجيهم البؤس وعندما يصومون يفطرون مع نتنياهو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق