كتب بلال فضل / المصرى اليوم /
مات أرجل واحد فى مصر. مات الدكتور محمد السيد سعيد. مات المثقف الفعل الذى وقف شامخاً صلباً فى مواجهة رئيس الجمهورية ليجأر فى وجهه بالحق، دون أن «يوطى» صوت قناعاته وينزل بسقف مبادئه مراعاة للظرف والمكان وهيبة المنصب، ودون أن يدعى البطولة ويتاجر بما فعله أبداً.
سيسجل التاريخ لهذا الرجل العظيم أنه على عكس عادة المثقفين المصريين فى «حصص الإملاء» التى كانت تعرف باللقاءات الفكرية مع رئيس الجمهورية وقف ليعلن رأيه بكل صراحة فى حال البلاد، بينما كان غيره يتعامل كما جرت العادة على أساس أن البلد يحكمه أناس غير الرئيس مبارك،
ونحن يا عينى نشكو إليه منهم. لم يكتف محمد السيد سعيد بما أعلنه أمام الرئيس، بل أصر ذو القلب الذى لم يكن أبدا آثما ألا يكتم الشهادة، وقرر أن يعطى الرئيس يداً بيد مشروعاً مقترحاً للإصلاح السياسى وضع فيه خلاصة خبرته فى البحث السياسى والعمل الأهلى، وسيسجل التاريخ أن الرئيس مبارك تعالى على هذا الرجل الذى اختلف معه بكل أدب، وقال ساخراً منه أمام الجميع «الورق ده تحطه فى جيبك»،
وتدخل مساعدو الرئيس (طبقاً للواقعة التى نُشِرت بعد حدوثها لكننا ننسى) وسط ذهول الجميع لكى يأخذوا مشروع محمد السيد سعيد منه منعاً لمزيد من الإحراج، لكى يختفى المشروع فى ظروف غامضة كما اختفت كل مشاريع الإصلاح والتغيير فى هذا البلد المنكوب.
«حتى الرسول مات وأمر الله لابد يكون» لم نقل شيئاً يا عم بيرم، راضون بقضاء الله وصابرون عليه، لكن القلب يحزن وهو يرى كيف تحتفى مصر الرسمية بأهل التطبيع والميوعة السياسية والتجارة بالمصطلحات وتوظيف الدال والنقطة لخدمة أحط الأفكار وأسفل النوايا، بينما تهرس أنبل أبنائها الذين أعطوها حبابى عينيهم دون أن يطلبوا جزاءً ولا شكوراً.
بالقطع ليست مصادفة أن يموت محمد السيد سعيد وهو يُعالج على نفقة الحكومة الفرنسية بعد أن تأخر قرار علاجه على نفقة الدولة ليصدر قُرب فوات الأوان ولا يتم تنفيذه بعد صدوره.
ليست مصادفة أن يكون آخر قرار يصدره إبراهيم سعده قبل رحيله عن أخبار اليوم قراراً يمنع الكاتب الحر صاحب الموهبة الأسطورية محمود عوض من العلاج على نفقة مؤسسته «أخبار اليوم»، ليعيش رحلة معاناة مريرة مع علاجه أشرت إلى بعضها فى حياته ومنعنى احترام كبريائه من نشر الباقى وقت أن عشته وشهدت عليه. ليست مصادفة أن يُعالج وجه مصر المشرق الدكتور الموسوعة التقى النقى الطاهر العلم عبدالوهاب المسيرى على نفقة أمير سعودى،
ويُعلن ذلك مراراً دون أن يحرك هذا النظام ساكناً اللهم إلا أيدى ضباط أمنه الذين لم يرحموا شيبة الرجل الكبّارة لمجرد أنه قرر أن ينزل إلى الشارع ليصل «الدايرة المقطوعة» التى لخّص بها الخال الأبنودى الليلة كلها «فإذا مش نازلين للناس فبلاش»،
أليست هى نفس الدائرة التى حمل هَمّ وصلها محمد السيد سعيد فى رحلته مع الألم التى امتدت من سجون السادات ومبارك مروراً بواقع الصحافة المرير الذى جابهه وهو يصنع تجربة «البديل» التى أسسها وأسكنها موقعاً مشرقاً فى ذاكرة الصحافة المصرية وصولاً إلى آخر نفس صارع فيه المرض الخبيث.
«استشهد الشرفاء الأنقياء.. أسفى عليك يا مدينتى التى لا يتسلط عليك اليوم إلا المنافقون، لم يا مولاى لا يبقى فى المزاود إلا شر البقر»، قالها أبونا نجيب محفوظ، ونقولها معه متألمين مجروحين دامعين، دون أن ننسى أن واجبنا الآن أن نحيى محمد السيد سعيد كمعنى لا غنى عنه فى صراعنا مع قوى الفساد والاستبداد والتطرف وتغييب العقل والتجارة بالدين.
يطلب منى الصحفى اللامع صديقنا خالد البلشى أن أوجه من خلال هذا العمود نداءً إلى مجلس إدارة صحيفة «البديل» بأن يضعوا أيديهم فى أيدى كل صحفيى وكتاب «البديل» لتتم صناعة عدد خاص من «البديل» عن الراحل الكبير، لا نريده تذكارياً بل نريده ذاكرة يتعلم منها شباب مصر، الآن وغداً، كيف عاش فى مصر ولمصر مثقف محترم لم يتاجر بالأفكار النبيلة من أجل مصالحه وذاته وحساباته،
مثقف آمن بأن القيمة الوحيدة هى العمل دون انتظار النتائج، مثقف وضع كل إغراءات السلطة والمعارضة أيضا خلف ظهره وقرر أن يكون نسيجاً وحده، وإذا كان قد رحل عن دنيانا إلى جوار الله قبل أن يرى تحقق ما ناضل من أجله،
فعزاؤنا أن مصر العظيمة التى أنجبت فى ظل كل هذا الانحطاط قيمة ورمزا ومعنى مثل محمد السيد سعيد قادرة بإذن الله على أن تنجبه ألف مرة، لتعيش يوما ما وحتما فرحتها غير المقطومة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق